فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الأعلى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى} أي: نزِّه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، فالاسم صلة. وسِرُّ إيراده أن المنوَّه به إذا كان في غاية العظمة، كثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه ومجد ذكره، كما يقال: سلام على المجلس العالي. هذا ما ذكروه. وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى، لاستحالة اكتناه ذاته العلية، فأقحم تنبيهاً على ذلك. ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أنهم «كانوا إذا قرؤوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى»، كما رواه ابن جرير وغيره.
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم، بعضها اللات وبعضها العزى، حكاه ابن جرير؛ فالإسناد على ظاهره، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في (الفِصَل) حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى، ذهاباً إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره. فقال ابن حزم رحمه الله: وأما قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى} فهو على ظاهره دون تأويل؛ لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل، هو تنزيه الشيء عن السوء، وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقاً به. ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى} ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 95- 96]، معنى واحد، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه. ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه؛ فكلا الوجهين صحيح. وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص. ولا فرق بين قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وبين قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48- 49].
والحمد بلا شك هو غير الله، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه، ولا فرق؛ فبطل تعلقهم بهذه الآية. انتهى كلامه.
وقد يقال: فرق بين الآيتين، فإن الباء في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} للملابسة، ولا كذلك هي في {بِاسْمِ رَبِّكَ} ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار ولآية {فَسَبِّحْهُ} وآية {سُبْحَانَ رَبِّكَ} والله أعلم.
و{الأعلى} هو الأرفع من كل شيء، قدرةً وملكاً وسلطاناً. واستدل السلف بظاهره في إثبات العلوّ بلا تكييف. والمسألة معروفة.
{الَّذي خلق فسوى} قال الزمخشري: أي: خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم.
{وَالَّذي قدر فهدى} أي: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرَّفه وجه الانتفاع به.
{وَالَّذي أَخْرَجَ المرعى} أي: أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات.
{فَجَعَلَهُ} أي: بعد خضرته ونضرته {غُثَاء} أي: جافاً يابساً تطير به الريح {أحوى} أي: أسود، صفة مؤكدة لـ: {غُثَاء} لغثاء؛ لأن النبات إذا يبس تغير إلى الحوّة، وهي السواد.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام لغة العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السواد فجعله غثاءً بعد ذلك. وهذا القول وإن كان غير مدفوع، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره، فأما وله في موضعه وجه صحيح، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. انتهى.
والقول المذكور هو للفراء وأبي عبيدة.
{سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تنسى} أي: سنجعلك قارئاً، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، والمعنى: نجعلك قارئاً للقرآن فلا تنساهـ.
قال الزمخشري: بشّره الله بإعطاء آية بيِّنة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أميٌّ لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساهـ.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين:
أحدهما: إنه كان رجلاً أميّاً، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة، خارق للعادة، فيكون معجزاً.
وثانيهما: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.
الثاني: قيل: {فلا تنسى} نهي، والألف للإطلاق في الفاصلة وهو جائز مثل {السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]، والمعنى لا تغفل قراءته وتكريره فتنساهـ. فالنهي عنه مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية.
قال الرازي: والقول المشهور أن هذا خبر، والمعنى: سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان، كقولك: سأكسوك فلا تعرى، أي: فتأمن العري، قال: واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية:
منها: أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به، فلابد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة التذكر، وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.
ومنها: أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة، وهو أيضًا خلاف الأصل.
ومنها: أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه. وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة. وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول. ولأنه على خلاف قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] انتهى.
الثالث: قال البرهان الشافعي في كتاب (تفضيل السلف على الخلف): إن بعضهم ذكر أن هذه الآية ناسخة لآية: {وَلَا تَعْجَلْ بِالقرآن مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وتحقيق معنى النسخ هنا في غاية الإشكال، لأن قوله: {وَلَا تَعْجَلْ} نهي عن العجلة، وقوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تنسى} ليس بأمر بها ليكون ناسخاً للنهي عنها، بل هو خبر عن بقاء الحفظ بعد إقرائه.
وفحواه مؤكد لمعنى الخطاب الآخر؛ لأن تأويله: إنا نحفّظك تحفيظاً لا تخاف معه النسيان؛ فلا حاجة لك إلى أن تعجل بالقرآن وتحرك به لسانك. ولكنهم سموه نسخاً، لغة لا حقيقةً، على معنى تبدل الحال عنهُ، فإنه ظهر له الأمن عن النسيان بعد خوفه أن ينساه لما كان يحرك به لسانه. انتهى.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} استثناء مفرَّغ من أعم المفاعيل، أي: لا تنسى مما تقرؤه شيئاً من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه، مما تقتضيه الجبلة البشرية أحياناً.
قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى، ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسياناً كلياً دائماً؛ وذلك لأن ما بالجبلة لا يتغير، وإلا لكان الْإِنْسَاْن عالما آخر.
وقد روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله فلاناً، لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن». ويروى: «أنسيتهن».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني». رواه الشيخان عن ابن مسعود.
وقيل: الاستثناء مجازي بمعنى القلة المراد بها النفي، وذلك أن المخرج في الاستثناء أقل من الباقي؛ ولأن: ماشاء الله، في العرف يستعمل للمجهول، فكأنه قيل: إلا أمراً نادراً لا يعلم؛ فإذا دل مثله على القلة عرفاً، والقلة قد يراد بها النفي في نحو: قلّ من يقول كذا مجازاً، أريد بالاستثناء هنا ذلك. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله: أو قال: إلا ما شاء الله، والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي.
وقال الفراء- فيما نقله الرازي- إنه تعالى ما شاء أن يُنسي محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لقدر عليه، كما قال: {وَلَئِن شيءنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه، لا من قوته. انتهى.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى} أي: ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال. وهو تعليل لقوله: {سَنُقْرِؤُكَ} مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
ثم أشار إلى أن هذا المُقرأ الموحى به للعمل، ليس فيه حرج وعسر، بقوله تعالى: {وَنُيسركَ لليسرى} أي: نوفقك للطريقة اليسرى، أي: الشريعة السَّمحة السهلة، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر.
{فذكر} أي: عباد الله عظمته، وعظهم وحذرهم عقوبته {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} أي: الموعظة، وإن إما بمعنى إذ، كقوله تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، أو بمعنى قد، على ما قاله ابن خالويه، ويؤيده قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقيل: إن شرطية، والمعنى ذم المذكرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم، تسجيلاً بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ المكّاسينَ إن سمعوا منك، قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون.
{سَيذكر} أي: يقبل التذكرة وينتفع بها {مَن يخشى} أي: بخاف العقاب على الجحود والعناد، بعد ظهور الدليل.
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الَّذي يَصْلَى النَّارَ الكبرى} أي: العظمى ألما وعذاباً.
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} أي: لا يهلك فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه. قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا: لا هو حي ولا ميت، فجاء على مألوفهم في كلامهم. و{ثُمَّ} هنا للتفاوت الرتبيّ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار وصليّه.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أي: فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله به.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} أي: تذكر جلال ربِّه وعظمته، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وجوز أن يحمل {تزكى} على إيتاء الزكاة، وصلى على إقامة الصلاة كآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة. لكن قيل عليه، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة. وأجيب بفعل مأخوذ منها، فلا كقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]. والأول أظهر، لأنه أشمل وأعمّ. وهو أكثر فائدة.
{بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا} قال أبو السعود: إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفآنية فتسعون لتحصيلها. والخطاب إما للكفرة، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: {إَنَّ الَّذينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدنيا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا} [يونس: 7] الآية، أو للكل، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الْإِنْسَاْن غالباً من ترجيح جانب الدنيا علي الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. والالتفات على الأول لشديد التوبيخ، وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، وتشديد العتاب في حق المسلمين. وقرئ: {يؤثرون} بالياء.
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى} أي: أفضل، لخلوصها عما يكدر. وأدوم لعدم انصرام نعيمها. والجملة حال من فاعل {تؤثرون} مؤكدة للتوبيخ والعتاب {إِنَّ هَذَا} أي: ما ذكر في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أو ما في السورة كلها {لَفِي الصحف الأولى} أي: ثابت فيها معناهـ.
{صُحُفِ إبراهيم وموسى} بدل من {الصحف الأولى}، وفي إبهامها ووصفها بالقدم، ثم بيانها وتفسيرها، من تفخيم شأنها، ما لا يخفى. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الأعلى:
الدرس الأول: 1- 5 تسبيح الله والإرشاد إلى بعض أفعاله:
{سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى}..
إن هذا الإفتتاح، بهذا المطلع الرخي المديد، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح، إلى جانب معنى التسبيح. وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح: {الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى}.. لتحيل الوجود كله معبدا يتجاوب جنباته بتلك الأصداء؛ ومعرضا تتجلى فيه آثار الصانع المبدع: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}..
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدآنية بالقلب والشعور. وليست هي مجرد ترديد لفظ: سبحان الله!.. و{سبح اسم ربك الأعلى}.. تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ، ولكنها تتذوق بالوجدان. وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات.
والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب. وصفة الأعلى.. والرب: المربي والراعي، وظلال هذه الصفة الحآنية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية.. وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى.. وتتناسق مع التمجيد والتنزيه، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى..
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء. وهذا الأمر صادر إليه من ربه. بهذه الصيغة: (سبح اسم ربك الأعلى).. وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الأمر، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة، قبل أن يمضي في آيات السورة، يقول: (سبحان ربي الأعلى).. فهو خطاب ورده. وأمر وطاعته. وإيناس ومجاوبته.. إنه في حضرة ربه، يتلقى مباشرة ويستجيب. في أنس وفي اتصال قريب.. وحينما نزلت هذه الآية قال: «اجعلوها في سجودكم». وحينما نزلت قبلها: {فسبح باسم ربك العظيم}..قال: «اجعلوها في ركوعكم».. فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة. لتكون استجابة مباشرة لأمر مباشر. أو بتعبير أدق.. لإذن مباشر.. فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه أحدى نعمه عليهم وأفضاله. إنه إذن بالاتصال به- سبحانه- في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة. صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته. في صفاته. في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها. وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أية صورة من صور الاتصال، هو مكرمة له وفضل على العباد.
{سبح اسم ربك الأعلى}.. {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}..
الذي خلق كل شيء فسواه، فأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه.. والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله، وألهمه غاية وجوده؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه أيضًا..
وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود. من الكبير إلى الصغير. ومن الجليل إلى الحقير.. كل شيء مسوى في صنعته، كامل في خلقته. معد لأداء وظيفته. مقدر له غاية وجوده، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق.. وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي.
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها.. وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها..
والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والإستعداد لأداء وظائفها كلها، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة.
وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية؛ كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية، درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي، وفي مثل هذا التناسق الجماعي، وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها.. والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة..
هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود؛ وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح. وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة، وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي، متى تفتحت منافذ القلب، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود.
والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوضحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى.. وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود.
يقول العالم (ا. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه: (الإنسان لا يقوم وحده)
إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن. فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف. ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي. وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا إلى الجنوب. وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار. ولكنها لا تضل طريقها. وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص، يحوم برهة ثم يقصد قدما إلى موطنه دون أن يضل.. والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح، في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل دليل يرى. وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة. ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تسد هذه الحاجة. ولابد أن للحشرات الدقيقة عيونا ميكروسكوبية مكبرة لا ندري مبلغها من الإحكام؛ وأن للصقور بصرا تلسكوبيا مكبرا مقربا. وهنا أيضًا يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديما بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراهـ. وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها!.
وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده، فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل. وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح. ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تأثرتا قليلا بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق. والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهماتكن ظلمة الليل. ونحن نقلب الليل نهارا بأحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها الضوء..... إن العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية. وتعد الحجرات الصغيرات للعمال، والأكبر منها لليعاسيب (ذكور النحل) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل. والنحلة الملكية تضع بيضا غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور، وبيضا مخصبا في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات. والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلا مجيء الجيل الجديد، تهيأن أيضًا لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه. ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث، ولا يغذين سوى العسل واللقح. والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات..
أما الإناث اللاتي في حجرات الملكة، فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر بالنسبة لهن. وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضا مخصبا. وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة، وبيضا خاصا، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء، وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء! وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضرورية لوجودها. ولابد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة. وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة!
والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مر. وليس ثمة من أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه. ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا- على ضعفها- قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة..
وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك بدقة تفوق كثيرا حاسة السمع المحدودة عندنا. وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال، كما لو كانت فوق طبلة أذنه. ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمسي!
إن أحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشا على شكل منطاد (بالون) من خيوط العنكبوت. وتعلقه بشيء ما تحت الماء. ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر جسمها، وتحملها إلى الماء، ثم تطلقها تحت العش. ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش.
وعندئذ تلد صغارها وتربيها، آمنة عليها من هبوب الهواء. فها هنا نجد طريقة النسج، بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية!
وسمك (السلمون) الصغير يمضي سنوات في البحر، ثم يعود إلى نهره الخاص به. والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه.. فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ إن سمكة السلمون التي تصعد في النهر صعدا إذا نقلت إلى نهير آخر أدركت توا أنه ليس جدولها. فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر، ثم تحيد ضد التيار، قاصدة إلى مصيرها!
وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها، هاجرت من مختلف البرك والأنهار. وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا. وهناك تبيض وتموت. أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شيء سوى أنها في مياه قفرة- فإنها تعود أدراجها وتجد طريقهاإلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها. ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة. ولذا يظل كل جسم من الماء آهلا بثعابين البحار. لقد قاومت التيارات القوية، وثبتت للأمداد والعواصف، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ. وهي الآن يتاح لها النمو. حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها. فمن أين ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟ لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية، أو صيد ثعبان ماء أوربي في المياه الأمريكية. والطبيعة تبطئ في إنماء ثعبان الماء الأوربي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها (إذ أن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي) ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معا في ثعبان ماء يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ؟!... وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية. وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة. ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها، مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما. ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة؟ وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي، فضلا عن السلك اللاقط للصوت (إيريال)؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟!... إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية. وهما يتيحان لنا الاتصال السريع. ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان. وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة.
والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم! كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي، ليوزع بذوره. وأخيرا أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ! فقد حسن الطبيعة وجازته بسخاء. غير أنه شديد التكاثر؛ حتى أصبح مقيدا بالمحراث، وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن، وعليه أن يربي ويهجن، وأن يشذب ويطعم. وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه، وتدهورت المدنية، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية!..
وكثير من الحيوانات هي مثل (سرطان البحر) الذي إذا فقد مخلبا عرف أن جزءا من جسمه قد ضاع، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة؛ ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل، لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان!
وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين. وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلا منه. ونحن نستطيع أن ننشط التئام الجروح، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعا جديدة، أو لحما أو عظاما أو أظافر أو أعصابا؟- إذا كان ذلك في حيز الإمكان؟!
وهناك حقيقة مدهشة تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد: فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطورها، إذا تفرقت، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل. ومن ثم فإنه إذا انقسمت الخلية الأولى إلى قسمين، وتفرق هذان، تطور منهما فردان. وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين. ولكنه يدل على أكثر من ذلك. وهو أن كل خلية في البداية يمكن أن تكون فردا كاملا بالتفصيل. فليس هناك شك إذن، في أنك أنت، في كل خلية ونسيج!..
ويقول في فصل آخر:
إن جوزة البلوط تسقط على الأرض، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة، وتتدحرج في حفرة ما من الأرض، وفي الربيع تستيقظ الجرثومة، فتنفجر القشرة، وتزدرد الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه (الجينات) (وحدات الوراثة) وهي تمد الجذور في الأرض، وإذا بك ترى فرخا أو شتلة (شجيرة) وبعد سنوات شجرة! وإن الجرثومة بما فيها من جينات قد تضاعفت ملايين الملايين، فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها. وفي خلال مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماما الذي أنتج أول شجرة بلوط منذ ملايين السنين.
وفي فصل ثالث يقول:
وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءا من اللحم. أو أن تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى. وعليها أن تصنع ميناء الأسنان، وأن تنتج السائل الشفاف في العين، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن. ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها. ومن العسير أن نتصور أن خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى. ولكن أحدى الخلايا تصبح جزءا من الأذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءا من الأذن اليسرى.... وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب. وفي المكان الصواب!
وفي فصل رابع.....
في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري. فالدبور مثلا يصيد الجندب النطاط، ويحفر حفرة في الأرض، ويخز الجندب في المكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ.. وأنثى الدبور تضع بيضا في المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى، دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها، فيكون ذلك خطرا على وجودها. ولابد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض.. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة!
وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض، وترحل فرحا، ثم تموت. فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية، وهي لا تعلم ماذا يحدث لصغارها، أو أن هناك شيئا يسمى صغارا.. بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها!... وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء. وينشيء النمل ما هو معروف (بمخزن الطحن) وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكا كبيرة معدة للطحن، بإعداد الطعام للمستعمرة. وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين يأتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت فإن (أعظم خير لأكبر عدد) يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام. وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان، فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود. ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي، إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه!
وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منهما ما يحلو لك) إلى زرع أعشاش للطعامفيما يمكن تسميته (بحدائق الأعشاش). وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق (وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية) فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له.
والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب. وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها، تستخدم صغارها- التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير- لحياكتها معا! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه، ولكنه قد خدم الجماعة!
فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟
لا شك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك.. انتهى.
أجل. لا شك أن هناك خالقا أرشدها، وأرشد غيرها من الخلائق. كبيرها وصغيرها. إلى كل ذلك.. إنه {الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}..
وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان. ووراءها حشود من مثلها كثيرة.. وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}.. في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه؛ بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف!
وبعد عرض هذا المدى المتطاول، من صفحة الوجود الكبيرة، وإطلاق التسبيح في جنباته، تتجاوب به أرجاؤه البعيدة، يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها: {والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى}.
والمرعى كل نبات. وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا. فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها، أو يطير في جوها.
والمرعى يخرج في أول أمره خضرا، ثم يذوي فإذا هو غثاء، أميل إلى السواد فهو أحوى، وقد يصلح أن يكون طعاما وهو أخضر، ويصلح أن يكون طعاما وهو غثاء أحوى. وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى.
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية. وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى... {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى}.. والحياة الدنيا كهذا المرعى، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى.. والآخرة هي التي تبقى.
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة.. تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها، بهذا الوجود؛ ويتصل الوجود بها، في هذا الإطار العريض الجميل. والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار. الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا.
الدرس الثاني: 6- 7 بشرى للرسول بتكفل ربه حفظ القرآن في قلبه:
{سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تنسى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى (7) وَنُيسركَ لليسرى (8) فذكر إِن نَّفَعَتِ الذكرى (9) سَيذكر مَن يخشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى (11) الَّذي يَصْلَى النَّارَ الكبرى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى (15)}
بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامته من ورائه:
{سنقرئك فلا تنسى- إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى- ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى}..
وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول صلى الله عليه وسلم: {سنقرئك فلا تنسى}.. فعليه القراءة يتلقاها عن ربه، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه، فلا ينسى ما يقرئه ربه.
وهي بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه. الذي كان يندفع بعاطفة الحب له، وبشعور الحرص عليه، وبإحساس التبعة العظمى فيه.. إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه. حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه.
وهي بشرى لأمته من ورائه، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة. فهي من الله. والله كافلها وحافظها في قلب نبيها. وهذا من رعايته سبحانه، ومن كرامة هذا الدين عنده، وعظمة هذا الأمر في ميزانه.
وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم، أو ناموس دائم، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعا من وعدها وناموسها. فهي طليقة وراء الوعد والناموس. ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع- كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال- ومن ذلك ما جاء هنا:
{إلا ما شاء الله}.. فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى. ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى؛ ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها. ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا..
(إنه يعلم الجهر وما يخفى).. وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء.. فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا.
الدرس الثالث: 8- 15 الله ييسر الرسول لليسرى ومطالبته بالتذكير ومن يتذكر ومن لا يتذكر والبشرى الثانية الشاملة:
{ونيسرك لليسرى}..
بشرى لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرى لأمته من ورائه. وتقرير لطبيعة هذا الدين، وحقيقة هذه الدعوة، ودورها في حياة البشر، وموضعها في نظام الوجود.. وإن هاتين الكلمتين: {ونيسرك لليسرى}، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة، وحقائق هذا الوجود أيضًا. فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود. الوجود الخارج من يد القدرة في يسر. السائر في طريقه بيسر. المتجه إلى غايته بيسر. فهي انطلاقة من نور؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود..
إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا. يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاهـ.. إلى الله.. فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير- وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير- يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص. اليسر في يده. واليسر في لسانه. واليسر في خطوه. واليسر في عمله. واليسر في تصوره. واليسر في تفكيره. واليسر في أخذه للأمور. واليسر في علاجه للأمور. اليسر مع نفسه واليسر مع غيره.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره.. ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة- رضي الله عنها- وكما قالت عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، بساما ضحاكا» وفي صحيح البخاري: «كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت»!
وفي هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة. جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية، عن هديه صلى الله عليه وسلم في (ملابسه): كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليا، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة. وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة. وكان إذا أعتم أرخى عمامته بين كتفيه- كما رواه مسلم في صحيحه. عن عمر بن حريث قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. وفي مسلم أيضًا عن جابر ذؤابة، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه. وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه.
وفي فصل آخر قال: والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها. وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس. من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرود اليمآنية والبرد الأخضر. ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة.. الخ..
وقال في هديه في الطعام: وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام، لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا. فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله- إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم- وما عاب طعاما قط. إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده، ولم يحرمه على الأمة، بل أكل على مائدته وهو ينظر. وأكل الحلوى والعسل- وكان يحبهما- وأكل الرطب والتمر، وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخزبرة- وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق- وأكل القثاء بالرطب، وأكل الأقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل القديد، وأكل الدباء المطبوخة- وكان يحبها- وأكل المسلوقة، وأكل الثريد بالسمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب. وأكل التمر بالزبد- وكان يحبه- ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه، بل كان هديه أكل ما تيسر، فإن أعوزه صبر... الخ.
وقال عن هديه في نومه وانتباهه: كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلىالأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله، وتارة على كساء أسود..
وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور- وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها- كثيرة جدا يصعب تقصيها. من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» [أخرجه البخاري].. «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم..». [أخرجه أبو داود].. «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» [أخرجه البخاري].. «يسروا ولا تعسروا» [أخرجه الشيخان].
وفي التعامل: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى» [أخرجه البخاري] «المؤمن هين لين» [أخرجه البيهقي] «المؤمن يألف ويؤلف» [أخرجه الدارقطني]. «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» [أخرجه الشيخان].
ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته صلى الله عليه وسلم للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعا وتكوينا.. عن سعيد بن المسيب عن أبيه- رضي الله عنه- أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما اسمك؟» قال: حزن أي صعب وعر قال: «بل أنت سهل».
قال: لا أغير اسما سمانيه أبي! قال ابن المسيب رحمه الله: (فما زالت فينا حزونة بعد)! [أخرجه البخاري].. «وعن ابن عمر رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وسماها جميلة» [أخرجه مسلم]. ومن قوله: «إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» [أخرجه الترمذي]..
فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها، ويميل بها إلى اليسر والهوادة!
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا.
وهذا مثل من علاجه للنفوس، يكشف عن طريقته صلى الله عليه وسلم وطبيعته:
«جاءه أعرابي يوما يطلب منه شيئا فأعطاهـ.
قال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا. ولا أجملت! فغضب المسلمون، وقاموا إليه؛ فأشار إليهم أن كفوا. ثم دخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي، وزاده شيئا. ثم قال: أحسنت إليك؟ قال: نعم. فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيرا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك.
قال: نعم. فلما كان الغداة جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي. أكذلك؟ قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال صلى الله عليه وسلم إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم. فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هونا هونا، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار»
..
فهكذا كان أخذه صلى الله عليه وسلم للنفوس الشاردة. بهذه البساطة، وبهذا اليسر، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق.. والنماذج شتى في سيرته كلها. وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفيدعوته وفي أموره جميعا..
هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة. فتكون طبيعتها من طبيعتها، وحقيقتها من حقيقتها، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها- بتيسير الله وتوفيقه- على ضخامتها... حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل، إلى عمل محبب، ورياضة جميلة، وفرح وانشراح..
وفي صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.. {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فقد جاء صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية. جاء ميسرا يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم، حينما شددوا فشدد عليهم.
وفي صفة الرسالة التي حملها ورد: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.. {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.. {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.. {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجا ولا مشقة. وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها {فطرة الله التي فطر الناس عليها}.
وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية، والحالات المختلفة للإنسان، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال.. العقيدة ذاتها سهلة التصور. إله واحد ليس كمثله شيء. أبدع كل شيء، وهداه إلى غاية وجوده. وأرسل رسلا تذكر الناس بغاية وجودهم، وتردهم إلى الله الذي خلقهم. والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف. وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».. والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة: إلا ما اضطررتم إليه.. وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف...
ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة. في هذه السمة الأصيلة البارزة. وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة. فهي الأمة الوسط، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة. الميسرة الحاملة لليسر.. تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير..
وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك.. ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة. لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد.. وملايين الملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي احكام. وكل منها ميسر لما خلق له، سائر في طريقه إلى غاية. وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد!
إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود، وطبيعة الرسالة، وطبيعة الرسول، وطبيعة الأمة المسلمة.. صنعة الله الواحد، وفطرة المبدع الحكيم.
{فذكر إن نفعت الذكرى}..
لقد أقرأه فلا ينسى {إلا ما شاء الله} ويسره لليسرى. لينهض بالأمانة الكبرى.. ليذكر. فلهذا أعد، ولهذا بشر.. فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير، ومنفذا للقلوب، ووسيلة للبلاغ. ذكر {إن نفعت الذكرى}.. والذكرى تنفع دائما، ولن تعدم من ينتفع بها كثيرا كان أو قليلا. ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب..
وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات، ندرك عظمة الرسالة، وضخامة الأمانة، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما؛ كي ينهض الرسول صلى الله عليه وسلم بعبء التذكير، وهو مزود بهذا الزاد الكبير.
فإذا نهض صلى الله عليه وسلم بهذا العبء فقد أدى ما عليه، والناس بعد ذلك وشأنهم؛ تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم، ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى:
سيذكر من يخشى، ويتجنبها الأشقى، الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيا. قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى..
فذكر... وسينتفع بالذكرى {من يخشى}.. ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى، فيخشى غضب الله وعذابه. والقلب الحي يتوجس ويخشى، مذ يعلم أن للوجود إلها خلق فسوى، وقدر فهدى، فلن يترك الناس سدى، ولن يدعهم هملا؛ وهو لابد محاسبهم على الخير والشر، ومجازيهم بالقسط والعدل. ومن ثم فهو يخشى. فإذا ذكر ذكر، وإذا بصر أبصر، وإذا وعظ اعتبر.
{ويتجنبها الأشقى}.. يتجنب الذكرى، فلا يسمع لها ولا يفيد منها. وهو إذن {الأشقى} الأشقى إطلاقا وإجمالا. الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها. الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة، التي لا تحس حقائق الوجود، ولا تسمع شهادتها الصادقة، ولا تتأثر بموحياتها العميقة. والذي يعيش قلقا متكالبا على ما في الأرض كادِحٌا لهذا الشأن الصغير! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى: الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى..
والنار الكبرى هي نار جهنم. الكبرى بشدتها، والكبرى بمُدَّتْها، والكبرى بضخامتها.. حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول. فلا هو يموت فيجد طعم الراحة؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة. إنما هو العذاب الخالد، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى!
وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر:
{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}..
والتزكي: التطهر من كل رجس ودنس، والله- سبحانه- يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه،
{بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى (18) صُحُفِ إبراهيم وموسى (19)}
فاستحضر في قلبه جلاله: {فصلى}.. إما بمعنى خشع وقنت. وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب، والشعور بمهابته في الضمير.. هذا الذي تطهر وذكر وصلى {قد أفلح} يقينا. أفلح في دنياه، فعاش موصولا، حي القلب، شاعرا بحلاوة الذكر وإيناسه. وأفلح في أخراه، فنجا من النار الكبرى، وفاز بالنعيم والرضى..
فأين عاقبة من عاقبة؟ وأين مصير من مصير؟
الدرس الرابع: 16- 17 ذم طالبي الدنيا مع أن الآخرة خير وأبقى:
وفي ظل هذا المشهد. مشهد النار الكبرى للأشقى. والنجاة والفلاح لمن تزكى، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم، ومنشأ غفلتهم، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى:
{بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى}..
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى. فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها. وهم يريدون الدنيا، ويؤثرونها..
وتسميتها {الدنيا} لا تجيء مصادفة. فهي الواطية الهابطة- إلى جانب أنها الدآنية: العاجلة: {والآخرة خير وأبقى}.. خير في نوعها، وأبقى في أمدها.
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا علي الآخرة حماقة وسوء تقدير. لا يقدم عليهما عاقل بصير.
الدرس الخامس: 18- 19 عراقة الدعوة ووحدة الرسالة:
وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة، وعراقة منبتها، وامتداد جذورها في شعاب الزمن، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان:
{إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}..
هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى. هذا الحق الأصيل العريق. هو الذي في الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى.
ووحدة الحق، ووحدة العقيدة، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها، ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر.. إنه حق واحد، يرجع إلى أصل واحد. تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة، والأطوار المتعاقبة. ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد. الصادر من مصدر واحد.. من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.. اهـ.